الخميس، 16 يوليو 2009

~~~ عيد لا كالأعياد ~~~

منذ سنوات وأنا أقضّي العيد في كمد صحبة ابنتيّ سلافة وميارى ، فقد فارقتنا الزّوجة منذ سنوات ملتحقة بالرّفيق الأعلى مخلّفة حسرة لا توصف في القلب ولوعة ووحشة في البيت ، كنت كلّ فجر عيد ، أترك صغيريتيّ نائمتيْن وأتّجه إلى المقبرة مترحما على والدتي الّتي لا أعرف وجهها فقد تركتني رضيعا ، وأصيبت بمرض النّفاس فأسلمت الرّوح إلي باريها ، وكذلك أمّ عيالي ، والوحيدة الّتي عرفتها من النّساء حقّ المعرفة ، فأغلبهنّ كنّ صورا عابرات في حياتي ، لم أتعلّق واحدة منهنّ ولا لامست كفّي إحداهنّ، لقد كانت رحمها الله الأخت والأمّ العطوف الّتي ألجأ إليها كلّما اشتدّت بي خطوب الدّهر، ولعلّ مروري على المقبرة هذا الصّباح اعتراف بشيء من جميلها ، ولطالما حاول الجيران والأصدقاء إقناعي بضرورة تزوّج امرأة ثانية تكفل صغيرتيّ ، ولكنّي كلّما فكّرت بذلك انتابني دوار رهيب ، أهو خشية امرأة الأب على ابنتيّ، وقد تذوّقت مرارة تصرّفاتها في صغري، أو خشية أن تضيع منّي صورة امرأة أحببتها ، لست أدري، دفنت الفكرة في أعماقي ، وانصرفت إلى الاعتناء بالطّفلتين فكنت لهما الأمَّ والأبَ ، كنت آخذهما إلى الحضانة أوقات العمل وأعود بهما في المساء، لأملأ حياتهما حكايات طريفة ومسلّية ، كما أقوم بواجبات البيت ، لم أشك ولم أتألّم، ولم أشعر بحاجة إلى غيرهما ...
صباح هذا العيد ، كنت أجلس إلى قبر أمّ عيالي ، وسرح بي الخيال بعيدا ، واسترجعت ذكريات راسخة في دماغي كوشم عتيق، لم أشعر بالنّاس وهم ينفضّون عن موتاهم، وفجأة قطع عليّ استغراقي صوت ملائكيّ :" سيّدي الفاضل ، أتقرأ شيئا من القرآن على قبر زوجي ، وأقدّم لك مالا ؟" رفعت رأسي وإذا بي أمام سيّدة تنظر إليّ في استحياء ، ولست أدري ما الّذي شدّني إليها، فرحت أشرح لها أنّ القرآن يتلى على الأحياء للاعتبار به وليس للأموات ، وهي عادة ألفها أهل قريتي معتقدين أنّ ما يتلى على قبور موتاهم سيغفَر لهم به، لم تقتنع بوجاهة رأيي ، ولم ألبّ طلبها، وصرنا وكأنّنا في صراع قيم ، ولكنّ شيئا ما يشدّني إليها ، ولم أقو على تركها ، فسألت :" ربّما تُوُفِّيَ زوجك حديثا" لأقطع الصّمت الرّهيب الّذي ساد بيننا ، دون أن تمهلني أجابت :" توفّي منذ سنوات أربع" وعرفت أنّها ترمّلت قبلي بسنة ونصف ، ودفعني الفضول فأضفت :"أكيد أنّك تزوّجت ثانية" فأومأت برأسها وعيناها تنظران إلى الأرض كمن أضاع شيئا ثمينا فراح يبحث عنه ، بحركة مفادها أنّها لم تتزوّج بعد بعلها ، خضنا في حديث عن الصّغار وعناء تربيتهم فعرفت أنّ لها ولدا يبلغ من العمر خمس سنوات ، وأنّها تصرف كلّ وقتها في الاعتناء به، وأنّها تعيش على راتب معاش زوجها ...
ودون سابق تفكير ألقيت إليها :" أترغبين في الزّواج بي ؟" ولست أدري ما الّذي دفعني إلى قول ذلك ؟ طأطأت رأسها ولم تنبس ببنت شفة، فهمت أنّها لا ترغب بذلك ، حاولت الاعتذار، ولكنّها قالت لي في استحياء :" هذه الأمور لا تتمّ على هذه الشّاكلة" فهمت أنّ عليَّ الاتّصال بأهلها وخطبتها ، فقرّرت اللّحظة أن أصطحبها إلي بيت أخيها لإتمام الخطبة ، وفعلا رافقتني أو رافقتها ، ولكنّنا سرنا في صمت ، بلغنا البيت ، فاستأذنتني وتركتني عند الباب ، ليخرج لي بعد ذلك رجل متين البنية فيحدجني بنظرة ثاقبة مع بسط يده للمصافحة ، سلّمت ومددت يدي ، فأدخلني بيته لننزوي في غرفة خاصّة وراح يسألني أسئلة كثيرة أشعرتني أنّي في جلسة تحقيق بوليسيّ ، طلبت يد أخته ومددته برقم هاتفي المحمول وعنوان بيتي ودعوته لزيارتي ، وفجأة تذكّرت صغيرتيّ اللّتين تركتهما تغطّان في سبات عميق ، وتذكّرت أنّ عليّ أن أعدّ لهما فطور الصّباح وأن أغسل أطرافهما وأسرّح شعرهما وأخرجهما في نزهة قصيرة بين ملاهي الأطفال حتّى وقت الغداء ، اعتذرت عن دعوته إيّاي وطفلتيّ للطّعام وانسحبت .
دخلت بيتي ، فوجدت الصّغيرتين متعانقتيْن وكأنّهما تلوذان ببعضهما البعض من أمر غريب ، ألقيت إليهما التّحيّة فردّتا في صوت واحد : " أبي هل ستتركنا " فدارت بي الدّنيا ، وطأطأت رأسي ثمّ استجمعت أنفاسي وقلت :" بلا ، لن أترككما "
انتهت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق