الأربعاء، 15 يوليو 2009

النقلاب الدّيمقراطيّ


السّاعة نزلت بأرض الوطن بعد غيبة سنين عشر قضّيتها بين طلب العلم وطلب الرّزق أدرس في السّاعات الصّباحيّة وأتفرّغ للعمل ، ضّيتها مطاردا من اليمين ومن الشّمال ، فإن التفتّ هنا وجدت الحاجة ثعبانا يتربّص بي وإن التفتّ هناك وجدت عيونا ترقب عودتي حاملا أفضل الشّهائد الّتي تسلّمها الجامعات الباريسيّة ، سيسألني الأهل والأحبّة عن المؤهّلات الّتي عدت بها وستسألني عينان فيهما سموّ الأنثى وعفّتها عن نتيجة تخلّيّ عنها بعد حبّ جمعنا سنوات البراءة والطّهر ، وعندما راسلتني لتعلمني أنّ هناك من تقدّم لخطبتها ، أجبتها إجابة بتراء : "سلمى وافقي ، فطريقي شائك وطويل " وكتمت ما يعتمل بي من براكين لتقطع أملها منّ ، فقطع الأمل وسلوك طريق جديدة أفضل من انتظار يدمّر الكائن من قدمه إلى رأسه ، أردت أن أطمئنّ عليها ولكنّها ستظلّ ساكنة في أحشائي حلما لذيذا حتّى يرث الله الأرض ومن عليها ...ما أجمل أن تريح إنسان من مرارة وعذاب الانتظار ، انتظار من قد يأتي وقد لا يأتي ... بهذا الإحساس أجبتها ، ولم أردّ على رسائلها التّالية ولتقل ما تقوله ، لتنعتني بالجبن وبالخيانة وبكلّ ما يسمح به خيالها من أوصاف ، فقط أردت لها الرّاحة والاطمئنان ، ولكنّي لم أعرف غيرها ولم أهوَ غيرها رغم مغريات حياة باريس بأنوارها وبشرها ومحلاّتها الّتي يباع فيها كلّ شيء ، ولكن خشية الله وصورتها كانت حصنا بيني وبين كلّ جميلات باريس ... عدت إلى أرض الوطن أحمل الدّكتوراه في اللّغة والآداب العربيّة ، وأيضا أشياء أخرى سيظهر مفعولها مع الزّمن كانت حياتي هناك أشبه ما تكون بحياة الرّهبان في ديْر ، أمرّ على كلّ المغريات في شموخ وتعفّف ، ها أنا أعود ، تعود معي كلّ الأشياء الحلوة ، غادرت المطار ، توجّهت إلى أقرب مقهى ، وجدت طاولة فجلست ، ناديت النّادل وطلبت كأس عصير برتقال طازج ، اعتذر لأنّه لا يتوفّر إلاّ المعلّب ، قبلت على مضض وبي سؤال " ترى لماذا نشرب العصير المعلّب في بلد من منتجي ومصدّري القوارص ؟ " لا يهمّ ، كان صوت رقيق وصورة جميلة ينبعثان من التّلفاز المثبّت أمامي ، وكانت كلمات الأغنية تقول : " أخاصمك آه ، أسيبك لأّه " وتذكّرت طفولتي البائسة وتلك الصّباحات البسيطة حيث كنّا نستيقظ على صوت ملائكيّ لسيّدة الصّباح فيروز ، وأغنيّاتها الرّائعة الجامعة بين روعة الكلمة وروعة التّلحين ورقّة المعاني ورهافة الأداء ، وتذكّرت ذاك الصّديق الّذي هاجر إلى فرنسا فالتقيته هناك ، وكان في قلبه جرح غائر من امرأة تزوّجها ، روى والعهدة عليه ، أنّهما كانا في عيش هنيء ، وفجأة تعرّفت زوجته إلى جارة مطلّقة ، فقلبت حياة أسرته رأسا على عقب ، فصارت الزوجة تطالب بحقّها في التّصرّف في جسدها وأصبح اللّباس المغري يروق لها ، حاول إفهامها ، ولكنّها لم تنتصح اتّصل بأهلها ، فأعانوه ، ولكنّها دعتهم إلى عدم التّدخّل في ما لا يعنيهم ، رفع قضيّة في الطّلاق لعلّه ينقذ ما تبقّى له من كرامة فتمسّكت به وأصرّت أمام القضاة ولكنّها كانت تتوعّده بعد ذلك بكلّ أشكال الانتقام النّفسيّ والجسديّ ، حار فلم يدر ما يفعل ، وبعد تفكير طويل وعميق ، وجد نفسه أمام حلّين فاختار أفضلهما ، وهو الفرار ببقيّة شرقيّ محطّم ، وموهبة في الرّسم ، وانضمّ إلى جماعة " مون مارتر ( 1 ) " وأصبح رسّاما متجوّلا يبيع ما يرسم بمقابل يكفيه الحاجة ، وصلته بعد ذلك برقيّة من أحد أقاربه يعلمه فيها أنّ زوجته رفعت ضدّه قضيّة في إهمال العيال وأنّ عليه الدّفع أو السّجن إذا فكّر في العودة ، وكأنّها تقول له :" أخاصمك آه أسيبك لأّه " تماما كما تقول هذه الأغنية ... جاءني النّادل بكوب العصير ، وورقة صغيرة لدفع الثّمن ، ألقيت نظرة فبدا لي الثّمن مشطّا فهم ذلك من قسمات وجهي ، فأردف ممازحا : " أنت في فضاء راق "استللت ورقة ماليّة من جيبي ومددتها إليه قائلا : " مكان راق ولا شكّ " ثمّ همست : " كم تنال أجرة عن هذا العمل " وليتني ما سألته فالمسكين تلعثم ، ثمّ أجابني فإذا هي لا تساوي ثمن مائة كوب عصير ، تنازلت له عن الباقي ، وأنا أهامس نفسي : " الارتقاء في الأسعار ، أمّا الأحور فهي منحطّة دائما ، ترى لماذا لا ترتقي بدورها ؟ " وتخيّلت هذا النّادل وهو يصاحب زوجته وأبناءه في جولة وأنّ سينفق نصف المرتّب ، وتذكّرت والدي ذاك المربّي الّذي يجلّه رجال القرية ونساؤها وشبّانها وأطفالها ، لم له من مكانة أدبيّة وعلميّة بينهم ، وتذكّرت كيف أنّي كلّما طلبت مالا يجيبني في خفّة روح : " كم للعيال وكم للمجلس البلديّ " وطافت بمخيّلتي أمور كثيرة مثل التهاب أسعار موادّ الطّاقة في الأسواق العالميّة وما رافق ذلك من ارتفاع في أسعار الموادّ الغذائيّة بعد اكتشاف الوقود الحيويّ ، وتصوّرت جائعا يقاتل سيّارة من أجل عرنوس ذرة فابتسمت رغم أنّ الأمر يدعو للبكاء ، فشرّ البليّة ما يضحك أو "قمّة الوعي
الضّحك" ، كما يقول صديقي الشّاعر ، ضحك على الذّقون كذلك الّذي يمارسه المخطّطون لعالم جديد على مقاسهم وحسب مصالحهم ومصالح مواليهم ، وتذكّرت ديمقراطيّة محمولة على دبّابات لا ترحم من يعتزّ بالانتساب إلى أرضه ، وتذكّرت أرض الرّافدين الّتي قيل أنّها قادرة على توفير الغذاء لكلّ العرب من المحيط إلى الخليج ، وكيف تمّ تجويع شعبها باسم الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان والقانون الدّوليّ وقفزت إلى ذهنيّ مقولة لأستاذ القانون الدّستوريّ " القانون كشبكة العنكبوت لا تقع فيها إلاّ الحشرة الضّعيفة كالباعوض والذّباب ، أمّا الحشرات القويّة ، فتخترقها وتمزّقها " ... رشفت رشفة من كوب العصير فإذا هو بلا طعم ولا مذاق ، بل هو أشبه ما يكون بماء سيّء المصدر حمدت الله أنّ الأمر لم يتجاوز هذا الحدّ ثمّ انفضت كمن تذكّر موعدا هامّا ، وغادرت المكان ، ركبت سيّارة أجرة أقلّتني إلى قلب العاصمة فإذا النّاس في حركة عشوائيّة تحسبهم سكارى وما هم بسكارى ولكن وقع الحياة عليهم شديد ، فآمنت أن لا ديمقراطيّة إلاّ تلك الّتي يصنعها الشّعب ، ولكن قدر شعبيّ أن يلازم محلّ المفعول به أبدا .
1ـ ـ مون مارتر : أحد شوارع باريس يجتمع فيه بؤساء الفنّانين لرسم لوحات للمارّة بمبالغ زهيدة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق