الأربعاء، 15 يوليو 2009

*~* عالق في الطّريق *~*

السّاعة بمعصمي تشير إلى الثّالثة صباحا ونيف ، واللّيل بهيم وقارس البرودة ، كنت أسوق السّيّارة وزوجتي وابنتيّ يرتعدن ، لست أدري ، أمن البرد أم من خطر مجهول قد يظهر في كلّ لحظة ،كنت أقود بشيء من الحذر وكأنّي أستكشف عالما مجهولا أو فضاء شحّ بالخلق إلاّ ما قد يمرّ صائتا بين طيّات الظّلام يقود سيّارة أطلق لها العنان ، كنت عائدا من قطر عربيّ إلى بلديّ عبر قطر آخر ، كانت الطّرقات فسيحة ، ولكنّها كانت تفتقد لافتات الإرشاد ، خشيت أن تضيع منّي الطّريق أو أضيع منها فأجد نفسي في مجاهل ، الله أعلم ماذا تخبّئ لي ؟ كانت زوجتي بين الفينة والأخرى تهمس معاتبة : "ألم أقل لك من البداية أنّه كان علينا أن نركب الطّائرة فهي أسرع وآمَنُ " فأهزّ رأسي مطمئنا ، وما قادني إلى هذه الرّحلة الشّاقّة سوى رغبة في اكتشاف بلاد أحبّها ومعرفة أهلها ومعرفة بعض عاداتهم، لقد أخبرتها ذلك منذ البداية ، ولكنّها لم تقتنع بسداد رأيي ولكنّها انصاعت لرغبتي أو لعلّها وجدت بعض هوى في نفسها ، كانت طريق الذّهاب آمنة حيث سرنا في النّهار ، وكنّا في كلّ بوّابة نتوقّف فينظر العون إلى زوجتي أكثر من نظره إلى ما طلبه من ورق ، لكن أصررت على العودة ليلا لاكتشاف أمر قد يكون حدسي ساقني إليه فلبّيت صاغرا ، أعلم أنّ اللّيل وحشة وظلام ولكن ، أيضا ، هدوء وسكينة ، وعالم سحريّ ... لاحت لي على البعد نقطة مضيئة تفصلني عنها قنطرة فحدّثتني نفسي بالاسترشاد منها ، قطعت القنطرة ، وأرسيت ركوبتي أمام المكان ، تركت زوجتي وصغيرتيّ ودخلت ، فإذا شابّان يتدفّآن على موقد وأمامهما سلاحان من فئة "الكلاشنكوف" ، سلّمت فردّا التّحيّة ثمّ سألت عن طريق العودة فاستفسرني أحدهما عن المكان الّذي جئت منه ، أخبرته ، فثارت ثائرته وانفجر بركانا من غليظ القول وكريهه ، ونعتني بالحمار والبغل ، وما عنّ له من قاموس حيوانيّ ركيك ، لم يوقفه إلاّ سؤالي عن سبب هذا العزف المنفرد ، فأخبرني بأنّي مررت من قنطرة يمنع المرور فوقها ، ثمّ وجّه لي تهمة تخريب وطنه مهدّدا إيّاي بحجز قد يستمرّ شهورا ، خرج مرافقه يستطلع السّيّارة فعاد كمن اكتشف كنزا وألقى لزميله : " معه حرمة وبنتين " فلمعت عيناه وكأنّه اكتشف أمرا عجيبا ، ثمّ اصطحبني إلى الخارج مسترشدا عن هويّة مرافقتي ، وراح يستطلع فيها ، ثمّ قال لي : " رأفة بزوجتك وابنتيك سنعوّض الحجز بغرامة ماليّة بثلاثمائة جنيه " احتججت فخفّض المبلغ إلى المائة ولكنّي رفضت فنزل به إلى ثلاثين جنيها ، مددتُ له المبلغ صاغرا ولسان حالي يقول : " دفع الله ما كان أعظم " تسلّمها فطالبته بوصل في المبلغ فثارت ثائرته وعاد إلى ذلك العزف المنفرد متّهما إيّاي ووطني بالارتشاء أمّا هو فشريف ولكنّه لا يسلّم وصلا ، جاملته بأدب فهدأ ، ولكن لم يسلّمني الوصل ، ثمّ أرشدني إلى الطّريق ، فركبت سيّارتي وأنا ألعن اللّحظة الّتي فكّرت فيها في الاسترشاد منهما، وأطلقت العنان للسّيّارة وكأنّي طير غادر القفص لتوّه ، ورحت أطوي الطّريق ، وكأنّي في سباق سيّارات أو كأنّي أسعى إلى ما هو آت ، وبعد مسير ساعة ونيف وجدتني في مفترق طرقات أشبه ما يكون بمتاهة ، فلا لافتات ولا هم يحزنون ، واستبدّت بي حيرة،وقفت عند المفترق ، غادرت السّيّارة لأدخّن سيجارة من نوع " كليوباترا " كنت أتأمّل المكان لعلّي أظفر بمرشد أو مساعد ، لكن لا حياة لمن تنادي ، فجأة لاحت سيّارة تشقّ عباب الظّلام فاستبشرت وقلت في نفسي : "جاء الفرج" أدركني سائقها فتوقّف في فرملة شديدة دون أن أشير إليه ، ونزل منها شبّان في مقتبل العمر، دعوني إلى رفع يديّ والانحناء على السّيّارة ، وراحوا يتحسّسون جيوبي وملابسي ، وذهب أحدهم ينظر من بداخل السّيّارة ، ألقى إليّ أحدهم : " خيرك ؟ فيه ورق " مددت يدي إلى جيب معطفي واستللت ورقي وورق السّيّارة وناولته إيّاها ، استعمل مصباحا لإنارتها وبعد قراءة مستعجلة عاد إلى قاموس السّبّ والشّتم متّهما إيّاي بالتّجسّس على وطنه ، لفائدة قوّة امبرياليّة تمارس سياسة التّجويع على شعبه منذ سنوات ، حاولت إقناعه بكون زيارتي كان من بين أهدافها كسر قيود الحصار والوقوف إلى جانب إخوتي، ولكن ، لم يكن في جعبته سوى معجم من رديء اللّفظ وغليظه ، ودون كثير تفكير أصدر حكمه عليّ بالحجز ثلاث سنوات ، احتججت بأنّ مثل هذا القرار لا يتّخذ جزافا هكذا ، فزاد في قذاعة لفظه متطاولا على البلد الّذي أنتسب إليه معلنا أنّه في وطنه " الشّعب يحكم نفسه " دون رجوع إلى القيادة بل تطاول على قيادة بلده بالسّبّ ، واستمرّ الحال هكذا لدقائق طالت ولكنّي من غضبي لم أجد جرأة ولا شجاعة للنّظر في معصمي ، وما قطع هذه الحال سوى سيّارة فخمة أرست بجانبنا ونزل منها رجل في الأربعينات من عمره ، فواجه الشّباب مقدمه بتحيّة عسكريّة، استرشد الأمر فأخبروه أنّهم قبضوا على جاسوس بصدد التّجسس على منطقة نفطيّة ، سحبني بعيدا عنهم وسألني خبري ، فأعلمته بحقيقة الأمر ، فواساني بكلمات مهذّبة معتذرا بقلّة خبرة هؤلاء الشّباب ومحدوديّة زادهم المعرفيّ والثّقافيّ وتجربتهم بالحياة ، ثمّ دعا أحدهم إلى مدّه بأوراقي ودعاني إلى ركوب السّيّارة واتّباع سيّارته ، وسرعان ما امتطاها وغاب في الظّلام ، قلت في نفسي : "استجرنا من الرّمضاء بالنّار" أطلقت عجلات سيّارتي بأقصى سرعة لكنّي لم أفلح في اللّحاق به ، وبعد مسير زهاء نصف السّاعة ، وجدته وقد أرسى على حافة الطّريق ، نزلت فدعاني إلى الرّكوب بجانبه ، وكان شديد التّهذيب إلى درجة أخجلتني من نفسي ، مدّ ورقة وقلما وكتب " يرجى مساعدة الأخ ... وتيسير عبوره " ثمّ ناولني إيّاها رفقة أوراقي وأراني الطّريق ، ورجا لي السّلامة واعدا بالاتّصال بي حال نزوله ببلدي ، فركبت السّيّارة وكانت عينا زوجتي بهما حيرة وحسرة ، فواصلت طريقي بسلام حتّى وصلت حدود بلدي فسَرَتْ في نفسي قشعريرة لا يعرفها إلاّ من غادر مشاهدة شريط سينمائيّ من أفلام الرّعب أوّل مرّة في حياته ، ورغم كلّ ذلك اعتبرت وزوجتي أنّ السّفرة كانت مفيدة جدّا لنا .
انتهت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق