
الرّبيع نثر بصماته في كلّ مكان ، فأشجار الحدائق تتوشّى بألوان زهورها البديعة، والفراشات تتراقص هنا وهناك في حركات دائريّة ، والعصافير تقاوم الصّمت بتغريدها المعلن عن موسم الحياة والتّكاثر فتتطاير هنا وهناك وتحطّ بين الفينة والأخرى فتتبادل دعابات لطيفة بمناقيرها، والسّماء صافية زرقاء بسطت عرشا سرمديّا تربّعت بوسطه شمس متألّقة تملأ الأفضية بأشعّتها وتحنو على الكائنات بدفء يخرجها من خمولها الّذي عمّره الشّتاء، على هذه المشاهد استيقظت هذا الصّباح، فلزمت سريري متكاسلا ملقيا نظرات بين الفينة والأخرى من نافذة غرفتي إلى هذه المشاهد البديعة، كنت أفكّر منذ ليلة البارحة بطريقة للإعلان عن الذّات، لتلك الّتي أحببتها في صمت ظاهريّ، ولكنّ بركانا دفينا ظلّ يثور بداخليّ منذ سنوات، إنّها هزيم، هكذا سمّاها أبواها، وكم كان اسمها لا يطابق شخصيّتها، فلا أثر للرّعود في كلماتها وحركاتها، بل هي كائن جميل متناسق في لطف دون استعلاء، صوتها إن تكلّمت أشبه بما يكون بوشوشات ماء رقراق في انسيابه، ومشيتها كتوقيع عزف سمفونيّ راق ... عرفتها منذ سنوات المدرسة الثّانويّة فعلق قلبي بها رغما عنّي، ما كانت جارة لي ولا زميلة دراسة، بل عرفتها ذات يوم بالمكتبة العموميّة حيث طلبت إليّ مساعدتها في إعداد بحث حول شعر الحماسة، لم أكن من هواة الشّعر ولا من حفظته قبل ذلك اليوم، ولكن بعد ذلك صرت أبحث في الكتب القديمة والحديثة عن كلّ ما ينتسب إلى هذا الجنس الأدبيّ، لست أدري سبب ذلك ، أهي أم روعة الشّعر ؟
بعد ذلك اليوم صرت ألتقيها صدفة بالحافلة فنتبادل التّحيّة وأحاديث حول الدّراسة والطّقس، وآخر المطالعات من شعر ونثر، كان شيء ما يشدّني إليها، ولست أدري ما هو ، أحيانا أقول :"هو الحبّ " وأحيانا أعاتب نفسي قائلا :" عليك أن تفهم قدرك وتلزم كرامتك، فجمال منظرها ولطف حديثها ورقّة تصرّفاتها لا تناسب من شحّ عليه الوجود في كلّ شيء، فعيناي ضيّقتان وأنفي كبير أفطس وشعريّ أشبه ما يكون بكومة أشواك، ... احترم نفسك يا فتى " وأصمت ويبقى هذا الشّعور دفينا بين الضّلوع .
كم وددت مصارحتها بما أحسّه إزاءها، لأرتاح ، لأظفر منها بقبول أو رفض وفي الحالتين راحة ممّا ألاقي ... شيء بداخليّ يصدّني عن ذلك، ليس الكبرياء فأنا نشأت مسحوقا بين أفراد أسرتي ، لقد كنت الأوسط، لسوء حظّي، فقد كان أخي الأكبر يلقى حظوة خاصّة من الوالدين ومن الأجداد والأعمام والأخوال، كانوا يستحلون حتّى بلاهته وتفاهته ، وكان أخي الأصغر بدوره لا يقلّ عنه حظوة، فأبي يلاطفه كثيرا ويقدّم له كلّ نفيس ومستطرف، كنت أشعر بغيرة بينهما، ولكن أقول في باطني : " هما أخواي ولا ذنب لهما في ما يفعله الأبوان والأقارب " وأبتلع ذلك في مرارة، صببت كلّ همّي في الدّراسة فصارت سلواي الوحيدة ، لم أشعر بنقص لأنّي لم أشارك أقران الدّراسة ولا أبناء الحيّ ألعابهم ومغامراتهم، كانت حياتي مقسّمة بين دراسة ومساعدة أبويّ في بعض الشّؤون، أذكر مرّة أنّ والدي قصد المسجد لأداء صلاة العصر وتركني في متجره، وقد كان عمري لا يتجاوز السّنوات الثّماني، فتحت أحد الدّروج في غيابه، وجدت مجلّة فأخذت أتصفّحها وأنظر ما بها من صور لنساء عاريات، فوجئت بعودته فصفعني واستلّها من يدي، ولكنّي لم أفهم سببا لذلك إلاّ بعد سنوات، وكم من مرّة دخلت على والدتي وقد اجتمعت بالجارات في فناء الدّار فكنّ يتبادلن أحاديث طريفة، ويقهقهن ضاحكات، لكن بمجرّد دخولي أو دخول أحد أخويّ يعمّ الصّمت ويستعضن عن الألفاظ بالهمز واللّمز، لقد تربّيت في بيئة تمنع اختلاط الرّجال بالنّساء، حتّى عندما تزورنا بنات الأقارب لا ألاعبهنّ، كان للرّجال عالمهم الخاصّ وللنّساء كذلك ما يخصّهنّ، وفي هذا الخضمّ شققت طريق دراستي بتألّق حتّى نلت شهادة في الهندسة الآليّة وها أنا أشتغل بشركة تركيب سيّارات أجنبيّة ...
اليوم هو يوم راحة لي ، لقد طال تكاسلي بالفراش ، ولعلّ هول الموقف الّذي قد أواجهه مع "هزيم" زاد من بطء قيامي ... وفجأة قرّرت الوقوف فغادرت الغرفة وعدّلت من هيئتي وغيّرت هندامي ثمّ أفطرت وغادرت البيت، قصدت الحيّ الّذي تسكن به يحدوني عزم على مصارحتها بما يعتمل بداخليّ من حبّ إزاءها، كنت أحسّ الأرض تنزلق من تحت قدميّ وصوت يحاول ثنيي عن المواصلة ، سرت بخطى منكسرة وبرأسي أكثر من سؤال وكأنّني مغامر يعتزم الإقبال على مغامرة غير مأمونة العواقب، أسئلة كثيرة أثّثت طريقي، ولكن دون إجابة ثابتة، صوت داخليّ مفاجئ استوقفني، لم لا ترسل الوالدة لخطبتها وتجنّب نفسك الحرج ؟ كدت أطيعه لولا أن ذكرت أنّي أخجل من محادثة أهلي بالموضوع، ليكن حرجي على انفراد أفضل من أن يصبح مشاعا للجميع، فقد يتحوّل موضوعي إلى فكاهة مبتذلة لدى الجميع، قرّرت أن أواجه الموقف وحدي، وليكن ما يكون ...
لم أدر كم استغرق الطّريق من الزّمن ، وكانت دقّات قلبي تتسارع كلّما اقتربت من حيّها، وصلت، اضطربت، لم أدر ما أفعل، خطر لي التّوجّه إلي بيت أسرتها مباشرة، لكنّي خشيت ردّة فعل أهلها ، كيف سأواجه والدها أو والدتها أو أشقّاءها، قرّرت البقاء في ركن الحيّ أتلهّي بمنظر ربيعيّ أخّاذ، وأذكر بعض لحظات هرّبتها من عالم الآخرين، فالآخر هو الجحيم كما قال جان بول سارتر، ودون سابق إنذار لمحتها قادمة بخطى متّزنة، جفّ الرّيق في حلقي، تبعثرت كلماتي وتسارعت دقّات قلبي، لعنت في داخلي اللّحظة الّتي فكّرت فيها بالقدوم إليها، تظاهرت بالنّظر إلى بيت مهجور بحيّها، انتهى إليّ صوتها: "فريد ! أيّة صدفة قادتك إلى حيّنا ؟ أهلا بك ، كيف الحال ؟" ضاعت من لساني الكلمات وبصوت مرتبك ألقيت إليها: " أهلا هزيم، أمازلت تسكنين في هذا الحيّ ؟" أجابت: " أكيد ...هل أساعدك بأمر ما؟" وتداخلت الكلمات والحروف في حلقي وضاع منّي ما جئت من أجله ، لم أدر كم دام تردّدي ولكنّي قطعته قائلا: " ألا يوجد بيت للبيع بحيّكم ؟" رفعت إصبعها وأشارت إلى البيت المهجور، لمع ببنصرها الأيسر خاتم، فهمت أنّها صارت مخطوبة ، تظاهرت بالسّؤال عمّن يكون صاحب هذا البيت المهجور فراحت تشرح لي ولكنّي ما انتبهت لما تقول، انتظرت على مضض انتهاء كلامها فشكرتها ومضيت مودّعا .
بعد ذلك اليوم صرت ألتقيها صدفة بالحافلة فنتبادل التّحيّة وأحاديث حول الدّراسة والطّقس، وآخر المطالعات من شعر ونثر، كان شيء ما يشدّني إليها، ولست أدري ما هو ، أحيانا أقول :"هو الحبّ " وأحيانا أعاتب نفسي قائلا :" عليك أن تفهم قدرك وتلزم كرامتك، فجمال منظرها ولطف حديثها ورقّة تصرّفاتها لا تناسب من شحّ عليه الوجود في كلّ شيء، فعيناي ضيّقتان وأنفي كبير أفطس وشعريّ أشبه ما يكون بكومة أشواك، ... احترم نفسك يا فتى " وأصمت ويبقى هذا الشّعور دفينا بين الضّلوع .
كم وددت مصارحتها بما أحسّه إزاءها، لأرتاح ، لأظفر منها بقبول أو رفض وفي الحالتين راحة ممّا ألاقي ... شيء بداخليّ يصدّني عن ذلك، ليس الكبرياء فأنا نشأت مسحوقا بين أفراد أسرتي ، لقد كنت الأوسط، لسوء حظّي، فقد كان أخي الأكبر يلقى حظوة خاصّة من الوالدين ومن الأجداد والأعمام والأخوال، كانوا يستحلون حتّى بلاهته وتفاهته ، وكان أخي الأصغر بدوره لا يقلّ عنه حظوة، فأبي يلاطفه كثيرا ويقدّم له كلّ نفيس ومستطرف، كنت أشعر بغيرة بينهما، ولكن أقول في باطني : " هما أخواي ولا ذنب لهما في ما يفعله الأبوان والأقارب " وأبتلع ذلك في مرارة، صببت كلّ همّي في الدّراسة فصارت سلواي الوحيدة ، لم أشعر بنقص لأنّي لم أشارك أقران الدّراسة ولا أبناء الحيّ ألعابهم ومغامراتهم، كانت حياتي مقسّمة بين دراسة ومساعدة أبويّ في بعض الشّؤون، أذكر مرّة أنّ والدي قصد المسجد لأداء صلاة العصر وتركني في متجره، وقد كان عمري لا يتجاوز السّنوات الثّماني، فتحت أحد الدّروج في غيابه، وجدت مجلّة فأخذت أتصفّحها وأنظر ما بها من صور لنساء عاريات، فوجئت بعودته فصفعني واستلّها من يدي، ولكنّي لم أفهم سببا لذلك إلاّ بعد سنوات، وكم من مرّة دخلت على والدتي وقد اجتمعت بالجارات في فناء الدّار فكنّ يتبادلن أحاديث طريفة، ويقهقهن ضاحكات، لكن بمجرّد دخولي أو دخول أحد أخويّ يعمّ الصّمت ويستعضن عن الألفاظ بالهمز واللّمز، لقد تربّيت في بيئة تمنع اختلاط الرّجال بالنّساء، حتّى عندما تزورنا بنات الأقارب لا ألاعبهنّ، كان للرّجال عالمهم الخاصّ وللنّساء كذلك ما يخصّهنّ، وفي هذا الخضمّ شققت طريق دراستي بتألّق حتّى نلت شهادة في الهندسة الآليّة وها أنا أشتغل بشركة تركيب سيّارات أجنبيّة ...
اليوم هو يوم راحة لي ، لقد طال تكاسلي بالفراش ، ولعلّ هول الموقف الّذي قد أواجهه مع "هزيم" زاد من بطء قيامي ... وفجأة قرّرت الوقوف فغادرت الغرفة وعدّلت من هيئتي وغيّرت هندامي ثمّ أفطرت وغادرت البيت، قصدت الحيّ الّذي تسكن به يحدوني عزم على مصارحتها بما يعتمل بداخليّ من حبّ إزاءها، كنت أحسّ الأرض تنزلق من تحت قدميّ وصوت يحاول ثنيي عن المواصلة ، سرت بخطى منكسرة وبرأسي أكثر من سؤال وكأنّني مغامر يعتزم الإقبال على مغامرة غير مأمونة العواقب، أسئلة كثيرة أثّثت طريقي، ولكن دون إجابة ثابتة، صوت داخليّ مفاجئ استوقفني، لم لا ترسل الوالدة لخطبتها وتجنّب نفسك الحرج ؟ كدت أطيعه لولا أن ذكرت أنّي أخجل من محادثة أهلي بالموضوع، ليكن حرجي على انفراد أفضل من أن يصبح مشاعا للجميع، فقد يتحوّل موضوعي إلى فكاهة مبتذلة لدى الجميع، قرّرت أن أواجه الموقف وحدي، وليكن ما يكون ...
لم أدر كم استغرق الطّريق من الزّمن ، وكانت دقّات قلبي تتسارع كلّما اقتربت من حيّها، وصلت، اضطربت، لم أدر ما أفعل، خطر لي التّوجّه إلي بيت أسرتها مباشرة، لكنّي خشيت ردّة فعل أهلها ، كيف سأواجه والدها أو والدتها أو أشقّاءها، قرّرت البقاء في ركن الحيّ أتلهّي بمنظر ربيعيّ أخّاذ، وأذكر بعض لحظات هرّبتها من عالم الآخرين، فالآخر هو الجحيم كما قال جان بول سارتر، ودون سابق إنذار لمحتها قادمة بخطى متّزنة، جفّ الرّيق في حلقي، تبعثرت كلماتي وتسارعت دقّات قلبي، لعنت في داخلي اللّحظة الّتي فكّرت فيها بالقدوم إليها، تظاهرت بالنّظر إلى بيت مهجور بحيّها، انتهى إليّ صوتها: "فريد ! أيّة صدفة قادتك إلى حيّنا ؟ أهلا بك ، كيف الحال ؟" ضاعت من لساني الكلمات وبصوت مرتبك ألقيت إليها: " أهلا هزيم، أمازلت تسكنين في هذا الحيّ ؟" أجابت: " أكيد ...هل أساعدك بأمر ما؟" وتداخلت الكلمات والحروف في حلقي وضاع منّي ما جئت من أجله ، لم أدر كم دام تردّدي ولكنّي قطعته قائلا: " ألا يوجد بيت للبيع بحيّكم ؟" رفعت إصبعها وأشارت إلى البيت المهجور، لمع ببنصرها الأيسر خاتم، فهمت أنّها صارت مخطوبة ، تظاهرت بالسّؤال عمّن يكون صاحب هذا البيت المهجور فراحت تشرح لي ولكنّي ما انتبهت لما تقول، انتظرت على مضض انتهاء كلامها فشكرتها ومضيت مودّعا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق