الخميس، 16 يوليو 2009

*~* تائه في الزّحام *~*


الطّقس ماطر ، فمنذ أيّام ثلاثة لم تظهر الشّمس إلاّ للحظات، تذكّرني بخجلي الطّفوليّ كلّما التقيت شخصا غريبا ، مع تضاعفه إن كان هذا الشّخص من جنس الإناث، تحوّلت الأرض إلى برك للمياه، فبلديّتنا لا تتعهّد الطّرقات إلاّ عند زيارة مسؤولٍ رفيعٍ المدينةَ، كنت أسير على الحاشية حذرا أحتمي بجمّازتي من قطرات الغيث بعدما رفعتها بيدي لتحطّ بطرفها فوق رأسي، وفجأة شعرت بمطريّة تحميني من السّيل دون سابق استئذان، لم أعر الأمر أهمّيّة في البداية ظانّا أنّها مصادفة من أحد المارّة، فرغم كلّ شيء نحن أناس تربّينا على مساعدة الغير دون انتظار مقابل، ولكن خطى صاحب المطريّة ظلّت ترافقني، وهو ما دعاني إلى رفع ناظريّ عن الأرض لتكون مفاجأة لم أدر كيف أتصرّف معها، تملّكني إحساس رهيب لا أجد له مكانا في الأوصاف الّتي توفّرها معاجم البشر، ليس خجلا ولا ألما ولا ندما ولا حيرة إنّه إحساس، ما عرفته من قبل ولا سمعت ولا قرأت عنه، حاولت أن أئده مصطنعا ابتسامة، وكأنّ مرافقتي أرادت أن تنقذني من الورطة هامسة: "أهلا بشير، صدفة سعيدة ..." تمالكت نفسي محاولاً كتم ما بي وهمست:" وعد، يا للصّدفة السّعيدة" ولست أدري إن كانت هذه الصّدفة سعيدة أم لا، فلطالما حلمت بلقاء وعد رفيقة الدّراسة وحبيبة الطّفولة والمراهقة والشّباب، ولكن أيضا كان وخزا يعتمل بصدري كلّما ذكرتها، فلقد أحببتها طفلا ومراهقا وكانت رفيقة أيّامي ولياليّ بالحضور والغياب ، وغُصْتُ في بحر من ذكريات لذيذة أيّام كنت أقصد بيت أسرتها لنراجع الدّرس مع بعضنا، وقد كان والدها يعارض ذلك في بداية الأمر ولكنّه حين وثق بخلقي أصبح يدعوني إلى بيته حتّى في أيّام العطل ... لمْ أدرِ كم دام تجديفي في هذا العالم السّحريّ، ليخرجني منه صوتها الرّقيق: "صدفة رأيتك فبقيت أتبعك مسافة، ولكنّك لم تنتبه إليّ وكنت تسير كمن يحمل هذا العالم على كتفيه، ما أصابك ؟ أين ابتسامتك الّتي كانت لا تفارق فاك ؟" وتنهّدت محاولا البحث في وجهها عن أمر ما ، لست أدري ما هو ؟ أهو الحبّ القديم ؟ أم ذكريات عمر انفرطت حبّاته بين يديّ وأنا كالتّائه في الزّحام، ودون طويل تفكير أجبت: "الحمد لله الّذي لا يُحْمَدُ على أمرٍ سواه" حدجتني بنظرة حائرة وكأنّها تبحث عن موضع صدقٍ في ما نبست به شفتاي ثمّ أردفت: " أيمكنني دعوتك لشرب قهوة؟" تردّدتُ للحظات ولكنّ شيئا بداخلي دعاني إلى الموافقة ...
سرنا حذريْن من برك الماء وربّما من أشياء أخرى وكان الصّمت سائدا بيننا، فطوال هذه المسافة كانت أسئلة عديدة تزدحم برأسي المتعب، وصلنا مقهى تبدو عليه بعض علامات التّرف، دخلنا، اختارت لنا منضدة منعزلة، فقفز إلى رأسي شيطان جائع، جلسنا فأشارت إلى النّادل فأتى مسرعا، فأغلبهم يسرع كلّما دعته أنثى، أمّا إن دعاه رجل فيتبلّد، أمّا إن كان المنادي سائح أوروبيّ فسرعة استجابته تتضاعف وتتضاعف، كنت سابحا في عالميّ الضّيّق في حين أحضر المشروبات وانسحب مضيفا: " رهن إشارتك سيّدتي" فرمقته بنظرة شرقيّ مُسَّ في كرامته، قطعت مضيّفتي هذا الأمر بقولها: "كم مضى من الوقت لم نتقابل خلاله؟"
ـ سنوات ، أكيد ...
ـ ما أخبارك ؟ هل لديك أطفال ؟
ـ لديّ، ( وانفلتت منّي آهة حرّى) لديّ طفلة ولكنّها مع أمّها، لقد افترقنا، لم نستطع مواصلة العيش معًا، ...
ـ هل طلّقتما ؟!
ـ نعم والحمد لله ...
ـ الحمد لله على أبغض الحلال !؟!
ـ نعم، فإنّي أحسّ نفسي الآن كطائر يحلّق بأجواز الفضاء بعد سنين قضّاها في قفص لا يدري ألوانا لقضبانه، ...
ـ تكلّم، فآخر مرّة زرت بيتنا في غيابي أخبرت والدتي أنّك تعتبرني بمقام شقيقتك ولكنّك لم تعد تريد رؤيتي ولا لقائي خشية على مستقبلك، فما الأمر؟
ـ فعلا حدث هذا، فأنت تعلمين أنّني وإيّاك بقينا في حالة بطالة بعدما أنهينا سنين طويلة في الدّراسة استهلكت طفولتنا ومراهقتنا وجزءا من شبابنا بلا رحمة، كنت أنتظر يوم أجد فيه عملا يناسب مؤهّلاتي، لأعلن على الملإ حبّنا وأخطبك من أهلك، وكنت أقصد مؤسّسات كثيرة بحثا عن شغل، حتّى قصدت شركة كان صاحبها يدعى توفيق، قدّمت له المطلب فضبط لي موعد آخر للقائه ولكن بعد العمل، حضرت في الموعد، فإذا هو يحدّثني بأمور لا علاقة لها بالعمل، عن حالتي الاجتماعيّة والمدنيّة مقدّما لي عرضا مغريا، أمهلني ثلاثة أيّام للتّفكير والرّدّ، وكان عرضه أن أتزوّج أخته العانس الّتي تكبرني بعشر سنوات مقابل أن يوفّر لي الشّغل مع وعدي بترقيات سريعة لأصبح رئيس قسم بشركته، عشت اليوم الأوّل في جحيم من التّفكير والموازنات والضّبط ، لم أنم ليلتها، وضعتك أمامي، وضعت المستقبل، رأيتني غير قادر على تأمينك من غوائل الزّمن، في اليوم التّالي قصدت بيت أسرتك وأعلمت والدتك بما قصّتْه عليك ، وفي اليوم الثّالث عدت إليه قبل أن تفتح الشّركة أبوابها، خشيت أن يهزمني القلب، فأرتدّ إلى ما كنت فيه من ألم وحيرة، وما كاد يحلّ بسيّارته الفخمة حتّى وجدتُني أسرع نحوه ككلب يبصبص بذيله عند قدوم سيّده، أدخلني مكتبه، فأخبرته بقراري، تهلّلت أساريره، ناولني مبلغا هامّا من المال ومدّ إليّ وصلا أمضيت عليه دون أن أقرأه، عدت إلى بيت أسرتي المتواضعة، أخبرتهم أنّي وجدت عملا وعروسا في ذات الوقت، وَلْوَلَتْ والدتي بالزّغاريد في حين ظلّت أختي الكبرى ترمقني بنظرة فيها الكثير من خيبة الأمل والعتاب... أعددت نفسي خلال أيّام، وكنت عريسا، وفّرت لي الزّوجة المصون المسكن الفاخر، واللّباس الفاخر والسّيّارة، ...
ومضت الأيّام، وحملتْ زوجتي بابنتي أريج، فبدأت تُضِيقُني صنوف الإهانات، وكانت لا تتورّع عن مقارنتي ببضاعة تباع وتشترى، دست على كرامتي، فأنا محاصر بين النّار والماء ولا مناص من الارتماء في أحدهما، فهنا الغرق وهناك الاحتراق، ولكن قرّرت في داخلي البحث عمّن ينسيني كلّ تلك الجراح، لم أذهب بعيدا، كان في القسم الّذي أشرف عليه فتاة في رقّة الزّهور، ولكنّ نظرة ألم تطفو باستمرار على محيّاها، لقد ذكّرتني هديلُ إيّاكِ، كنت ألاطفها كلّما التقيتها حتّى اطمأنّت إليّ، أصبحت تردّ على لطفي بكلمات رقيقة افتقدتها لزمن بعيد، دعوتها أكثر من مرّة إلى تناول الغداء، لم أحاول يوما لمسها، بل كنت أكتفي بما أنعم الله عليها من كلام عذب وروح شفّافة وجمال لطيف، ... .
ـ أنتم الرجال، تتذرّعون بأيّ أمر لتغيّروا كلّ شيء .
ـ كنت مضطرّا إلى ذلك لأستطيع تحمّل ظروف بيتي وعملي، ولكن، دوام الحال من المحال، فقد شبّ خلاف بين زوجتي وشقيقها حول التّصرّف في الشّركة الّتي تركها لهما أبوهما، أرادت أن تجعلني أدافع عن حقّها، أخبرت شقيقها بالأمر، فشهر في وجهي ذلك الوصل الّذي أمضيته، فإذا به مبلغ لا أقدر على دفعه وإن بعتُ أشلائي وأعضائي وكلّ من يعزّون عليّ، اختطفته من يده، فقهقه وأخبرني أنّه سُجِّل بالدّفتر العقّاريّ ويوجد منه نسخ منظرة عند محام وبالودائع بالبنك، أخبرت شقيقته لاحقا بالأمر فكان ردّها : " لقد أفلح في اختيار زوج أحمق لي" أحسست بوجع في داخلي لكلامها، ووجدتني في وضع لا يحسدني عليه إلاّ سفيه أو معتوه، حاولت أن أدافع عن إرث طفلتي، لكنّ صهري المخادع كلّف من يراقبني، حتّى عثر لي على نقطة ضعف أخرى، فقد فاجأني صحبة شقيقته مع هديل، وصبّتْ عليّ جامَّ غضبها ونَسِيَتْ كلّ ما عهدت به إليّ من دفاع عن حقّها في إرث والدها، عدت إلى البيت محاولا إقناعها بكوني لم أخنها، ولكنّها انهالت عليّ بوابل من النّعوت الحيوانيّة، ثمّ أمرتني بترك مفاتيح السّيّارة والرّحيل بغير رجعة، أدركت أن لا فائدة مع غرورها، عدتُ إلى بيت أبويّ أجرّ يدا فارغة وأخرى لا شيء فيها وقلبا هدّته الكلوم، أخبرت أختي ووالديّ بأنّ زوجة في سفر طويل وأنّي اشتقت إليهم فاسترخصت من العمل، لأنعم بأيّام معهم في هدوء وطمأنينة، هضموا الأمر بعسر، ولعلّهم أحسّوا بمعاناتي فلم يريدوا إرهاقي بمزيد من الأسئلة، مضى أسبوع على هذه الحال، وإذا بعدل منفّذ ، يفاجئني بإعلام من المحكمة حول نشر قضيّة في حقّي بتهمة إهمال العيال، فزوجتي لم تجد ما تَطْعَمُهُ أو تطعم به صغيرتنا في غيابي، بعد يومين وصلتني رسالة من الشّركة تعلمني بطردي من العمل لغيابي الغير مبرّر لمدّة فاقت الأيّام الثّلاثة، اكتملت المأساة، فضحكت من نفسي ومن قسوري...
ـ كيف تصرفت؟ حكايتك تشبه مسلسل محبوك الإخراج.
ـ بعد جلسات مطوّلة، حكمت المحكمة بيننا بالطّلاق وغرّمتني بخمسين ألف دينار لزوجتي المسكينة لقاء ما سبّبتُه لها من ضرر معنويّ ومادّيّ، ونفقة شهريّة لابنتي بمائة وخمسين دينارا، لا طائل لي بدفع هذه المبالغ، تراكمت ديوني لها، لم أدفع، فكان أن أُلْقِيَ عليّ القبض وسُجنت، وخرجتُ من سجن إلى سجن، ومن سجن العمر إلى سجن الحياة، ومن سجن الحيرة إلى سجن الضّياع ، وها أنت تريْنني أمامك إنسانا متعبا يتناوشه الفشل واليأس والحسرة ...
ـ مأساة فضيعة ... للأسف ... آه ...
لست أدري ما الّذي دفعني إلى النّظر في عينيْها فإذا دمعة تترقرق في مقلتها، ودون تفكير، مددْتُ يدي لأداعب خصلات شعرها، فانتفضتْ كالملدوغ أبعدَتْ يدي في ثورة، مدّت من حافظتها ورقة نقديّة من فئة عشرة دنانير وألقتها على المنضدة، ثمّ ألقت في وجهي: "لم أعتقد يوما أنّك وَعْثَاء الحياة الّتي عشتَها قد لوّثتْك إلى هذا الحدّ أنا امرأة متزوّجة وأحترم زوجي وابنيّ"، ثمّ غابت، بلعتُ ريقي في مرارة، وضعت يدّيّ على المنضدة وأسندْتُ إليهما رأسي، وأخذني دوار رهيب.....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق