الخميس، 16 يوليو 2009

(: لأنّي إنسان وهي إنسانة :)



عالم غريب هو هذا العالم الافتراضيّ، ففيه فيض من المعلومات في شتّى مجالات العلوم والحياة والتّكنولوجيا والآداب، وكلّما أبحر الواحد منّا فيه، كان كمن يشرب من ماء بحر أجاج، كلّما شرب منه ازداد ظمأ . تكشّف لي هذا العالم منذ سنوات عشر، إذ كنت أرتاده لإنجاز بحوث أو للبحث عن معلومات تخصّ عمليّ، وبين الفينة والأخرى كنت أرتاد أفضية الحوارات والاتّصال أو ما يعرف بأفضية الدّردشة، فأدخل غرفا حسب ما يرتادني من نزوات، فتارة تجدني أدخل غرف هواة الموسيقى، وأخرى غرف الفنون الجميلة، وأخرى غرف النّقاشات السّياسيّة، وأحيانا غرف التّعارف وربط العلاقات بين الجنسين ... وذات مرّة دخلت إحدى غرف "حوار الحضارات" فوجدت مجموعة هامّة من الشّباب العالميّ يناقشون قضايا العولمة والإرهاب، كان الجميع يتطاولون على الإسلام والمسلمين بمن فيهم شبّان يحملون أسماء عربيّة، تردّدت قبل الإدلاء بدلوي في الموضوع، فلطالما مثّلت مثل هذه الأمور نقاش صمّ، أي كلّ واحد له فكرة قبليّة كوّنها نتيجة إعلام مغلوط أو حدث عاشه أو وقع أمر من الأمور عليه أو على وطنه أو نتيجة أمور أخرى معقّدة ومتشعّبة، لم يطل تردّدي، ولم أحاول اتّخاذ موقف بعينه، بل طرحت في درج النّقاش تدخّلا في شكل استفسار: "من منكم يحدّثنا عن الإسلام؟" وانهالت عليّ الرّدود البعض يسألني إن كنت مسلما، البعض الآخر يسألني عن كيفيّة الانضمام إلى جماعة القاعدة، والآخر يتحدّث بجهل فاضح عن الإسلام والمسلمين مستظهرا شعارات جوفاء لطالما ردّدها إعلام غربيّ له شواغله وغاياته الّتي لا تخلو من عداء لأمّة العروبة والإسلام، وللأسف، نجد بعض مثقّفينا أو أنصاف مثقّفينا لقفوها واستنسخوها ورفعوها إمّا تملّقا للغرب أو تنصّلا من أصولهم، كانت مداخلتي بعد ذلك حول تعريف الإسلام وبيان كونه مشتقّ من السّلام ، وأنّ المسلم من سلم النّاس من يده ولسانه، وأنّ المسلم هو إنسان مسالم ومؤمن وإيمانه يمنعه من إيذاء النّاس بقول أو عمل، تغيّرت بعض المواقف تغيّرا تختلف درجته من محاور إلى آخر، فالبعض نعتني بالسّفيه مستشهدا ببعض الأعمال والتّفجيرات المحسوبة على المسلمين، والبعض الآخر دعاني إلى مزيد توضيح مبادئ الإسلام، وتحوّلت إلى شبه فقيه على محدوديّة تكويني في هذا المجال، حاولت الرّبط بين آثار بعض التّصرّفات وما يعانيه الإنسان من أمراض نفسيّة وجسديّة وبين الإسلام باعتباره نظام حياة قائم على الموازنة بين طمأنينة النّفس وراحة الجسد والتّنعّم بما خلق الله لنا من نعم، ولتدقيق كلامي تحدّثت عن مرض فقد المناعة المكتسبة أو ما يعرف بالسّيدا أو الأيدز، وما يمثّله من خطر على حياة الإنسان مبيّنا أنّ من أسبابه الحياة الفوضاويّة كالإقبال على العلاقات الجنسيّة المتعدّدة ، وتعاطي المخدّرات وبعض الأمور الشّاذّة، حاجّتني شابّة كنديّة بأنّنا أي الأفارقة مصدر هذا الدّاء لإهمالنا الجوانب الوقائيّة وجنوحنا إلى علاقات جنسيّة شاذّة مع القرود وبعض الحيوانات الأخرى، لم أرد الدّخول معها في جدل عقيم قد يتحوّل إلى حوار عنصريّ أو حوار صمّ، فقط قلت لها بلطف:" راجعي تاريخ ظهور هذا الدّاء ومواطنه" ومضيت ، في الأثناء دعتني إحدى الشّابّات البريطانيات إلى حوار خاصّ على المسّنجر لأنّ لها أمورا مخصوصات تريد محاورتي فيها، كان اسمها "كاتي" ، غادرت غرفة النّقاش لأتفرّغ إليها على المسّنجر، دام الحوار بيننا وقتا طويلا، وقد عرفت منه أنّها سمراء البشرة تنحدر من أصول إفريقيّة وأنّها على دين المسيح وأنّها معجبة بما طرحته من أفكار، وتحوّل الحوار بيننا إلى ما يشبه إعجاب وانجذاب، رغم أنّ فرنسيّتها ضعيفة وأنجليزيّة أضعف وأضعف، فقدْ نجحنا في التّحاور مع تقدير واحترام كلّ منّا للآخر، لم أدر كم دام الحوار، فقد نسيت كلّ حاجاتي البشريّة والبيولوجيّة، وأصاب عينيّ ما يشبه العشاوة بمفعول الإشعاع الضّوئيّ المنبعث من شاشة الحاسب، وأحسست آلاما في الظّهر، ولم أجرؤ على إيقاف هذا الحوار اللّطيف، وفي الحقيقة انتظرت أن تقطعه هي، فلم تفعل، وفجأة كتبت لها " كاتي ، ألا تشعرين ببعض إرهاق" ردّت بالإيجاب وتعلّلت بأنّ لطف حديثي قد شغلها عن ذلك أو أنساها متاعبها، اعتبرت ردّها لطفا وديبلوماسيّة منها، ولست أدري من كان منّا يتّصف بهذه الدّيبلوماسيّة، رجوتها أن ترتاح ، فقبلت وحدّدنا موعدا للالتقاء مجدّدا على المسّنجر، والتقينا مرّة ومرّات افتراضيّا، بل أحسست أنّي قد أدمنت لقاءها ومحاورتها، فعبّرت لها عن ذلك فوجدت أنّها تحمل نفس المشاعر، ومع مرور الأيّام والأسابيع مررنا من حوار ثقافيّ إلى حوار عاطفيّ وجدانيّ تؤثّثه لواعج الشّوق والتّوق إلى اللّقاء، كان هذا الإحساس متبادلا، فتبادلنا الصّور الرّقميّة لعلّ الواحد منّا يجد فيها عزاء إن دخل الشّبكة ولم يجد الآخر عالقا فيها ! ومرّت الأشهر وجاءت عطلة الصّيف، فوجدت صديقتي تعبّر لي عن رغبتها في زيارتي في وطنيّ، وتدعوني إلى حجز غرفة لها في أحد النّزل القريبة من وسط المدينة، أعلمتها أنّ الحجز من لندن أقلّ ثمنا من الحجز المباشر من بلديّ فتعجّبت، فكّرت مليّا ثمّ اقترحت عليها الإقامة معي في بيت العائلة، فتساءلت إن كانت أسرتي تسمح بذلك، أخبرتها أن لا حرج في الأمر، فاندهشت، ولست أدري ما سبب اندهاشها؟! بعد أسبوع أعلمتني أنّها حدّدت موعد السّفر إلينا وأنّها حجزت مكانا بالطّائرة، أحسست بعض الاضطراب خاصّة وأنّي لم أعلم أحدا من أفراد العائلة بذلك، فهل ترى يقبل الوالد ذلك ؟ أنا لا أجرؤ على محاورته في الأمر، بل كانت كلّ طلباتي تمرّ عبر "وزير الدّاخليّة" أي الوالدة، خاطبتها في الأمر، فلم تعطني إجابة بالرّفض أو القبول، بل أرجأت ذلك إلى ما بعد مفاتحة أبي فيه، ومن الغد صباحا بادرتني قائلة: "لقد وافق أبوك على طلبك على أن تبيت الضّيفة مع أختك الصّغرى في غرفتها دون أن تقترب منهما" استغربت من ذلك قائلا: " طبعا، فهي لن تقيم بغرفتي" ربّتت على كتفي وابتسمت ثمّ مضى كلّ منّا إلى وجهته ...
ومرّت الأيّام ووجدتني بالمطار أستقبل هذه الصّديقة أو الحبيبة، لقد كان أوّل لقاء بيننا محتشما، فما أصعب أن تمرّ من عالم افتراضيّ قائم على التّصوّر والخيال إلى عالم حقيقيّ بما يعنيه من واقع ومادّة ! وفي الحقيقة وجدتها أروع، فهي جمعت بين سمرة إفريقيّة تمريّة أي تشبه لون التّمر النّاضج، وبين القسمات الأروبيّة الرّقيقة، أحسست بشيء داخليّ يهفو إليها، ولكنّي تماسكت، كانت كلماتنا طوال الطّريق عن السّفر ومتاعبه ولذّاته، سألتني أسئلة كثيرة إمّا في فرنسيّة مكسّرة أو في أنجليزيّة لا أفهم منها الكثير، كنت أرجئ الإجابات ، وأركّز على تعليمها بعض الكلمات العربيّة، حتّى تحيّي بها العائلة، وصلنا البيت ، قدّمتها لمن كان متواجدا به من أفراد، اصطحبتها شقيقتي الصّغرى إلى غرفتها لتنالا قسطا من الرّاحة وربّما للتّعارف خاصّة وأنّها تحذق اللّغة الأنجليزيّة، شاركتنا كلّ أنشطتنا من غداء وعشاء وسمر، ومن الغريب أنّنا بداعي مراعاة شخصها ضبطنا التّلفاز على قناة عربيّة تبثّ أفلام حركة بالأنجليزيّة ، ولكن فوجئنا برغبتها في متابعة قناة عربيّة تبثّ بالعربيّة، وتجنّبا كلّ إحراج قنوات الكليبات والأفلام، اختارت شقيقتي قناة دينيّة، ومن حسن الحظّ أن كانت تبثّ برنامجا حول القرآن الكريم باللّغتين العربيّة والأنجليزيّة فلاحظت أنّها كانت تتابع بانتباه تلميذ يخشى أن تفوته كلمة من محاضرة يتوقّف عليها نجاحه، وانتهت السّهرة سريعا فضيفتنا تحتاج راحة بعد مشاقّ السّفر، وكثرة أسئلة شقيقتي الّتي حرمتها من القيلولة.
ومن الغد اصطحبتها وشقيقتي الصّغرى وشقيقي الأصغر إلى الشّاطئ، فعبّرت عن إعجابها بصفائه ونظافة رماله، واستمتعت بالسّباحة تارة معي وطورا مع شقيقتي، وفي الأثناء سألتني عن هذا الاختلاف الصّارخ بين النّاس عندنا، فهناك من يسبح بثياب سباحة كاشفة وهناك من يلبس ملابس لا تكشف من الجسم إلاّ ما لا يمكن ستره، أخبرتها أنّ كلّ واحد يمارس قناعاته، ولكن قد تكون العقول في باطنها متشابهة ... وخلوت إليها، فهمست لها:" أتعرفين شيئا ؟"
جحظت عينيها فأردفت: "أحسّ كأنّي أعرفك من سنوات" ابتسمت في دلال فأضفت: " أحبّك كاتي" تصلّبت قسمات وجهها فجأة وردّت في فرنسيّة مفكّكة الأوصال: " يجب أن لا تحبّني" تملّكني شعور غريب ينوس بين الحيرة والاستياء حاولت إنقاذ الموقف فسألتها: " ولِمَ ؟" تعلّلت بأنّها لا تستطيع إجابتي، وغيّرتْ الموضوع ولكنّي أصررت إلحاحا ولججت في السّؤال فأجابتني إجابة أكثر إبهاما من الأولى: "ليس لكلّ سؤال إجابة، ولكلّ أمر أوانه" أحسست بضرب من الخجل أو لعلّها كرامة الرّجال والتّعفّف جعلتني أتخلّى عن هذا الإصرار، غيّرت الموضوع إلى الحديث عن العادات والتّقاليد واختلافها بين لندن ومدينتي، وجدت أنّها لا تجد اختلافا كبيرا في المظاهر ولكنّها لاحظت اختلافا في العقليّات من خلال حديثها إلى أفراد أسرتي. ومرّ الوقت سريعا بين السّباحة واللّهو بالكرة داخل البحر، عدنا إلى البيت، بعد الاستحمام والرّاحة، لاحظت أنّ شقيقتي استأثرت بضيفتي، سرى في نفسي إحساس بالغيرة، وهمس صوت في داخلي: " لو تركتها تحجز في نزل لأمكنك الاستئثار بها لنفسك" وتبسّمتُ لذلك، فصديقتي صارت لصيقة بشقيقتي وكأنّها نسيت وجودي أو تناسته، فتراهما تخرجان معا وتتحاوران أمامي بلغة أنجليزيّة لا أفهم منها الشّيء الكثير، وذات مرّة كنّا نتجوّل في أحد المتاحف ففاجأتني بقولها: " أريد أن أصبح مثل شقيقتك" تملّكتني حيرة واستفسرتها: "لم أفهم قصدك" أوضحت بعفويّة: "أريد أن ألبس مثل لباسها وأقوم بحركات مثل حركاتها" فهمت أنّها تريد أن تتحجّب وأن تصلّي فقلت لها: "قبل أن تلبسي مثل لباسها وتصلّين مثل صلاتها يجب أن تدخلي في دين الإسلام" فدحرجت رأسها بالموافقة وأضافت: "لقد حدّثتني أختك كثيرا عن ذلك وأعجبني، أين أجد شيوخكم لأدخل في الإسلام؟" تبسّمتُ قائلا: "في ديننا لا توسّط بين الإنسان وربّه فالعلاقة تمرّ مباشرة من قلب المؤمن إلى خالقه، يكفي أن تعلني إسلامك، مع الاقتناع التّامّ ثمّ تتّبعين ما أمرك الله به وتنتهين عمّا نهاك عنه" فلمعت في عينيها نظرة رضا، وأضفتُ: " اللّيلة سنساعدك في ذلك، ستجتمع العائلة وتحتفل بانضمامك إلينا" فتبسّمت ابتسامة من وجد الماء بعد ظمإ طويل .
وفي المساء اجتمع أفراد الأسرة فلقّنّاها الشّهادتين وتكفّلت شقيقتي بترجمتهما، وحدّثناها عمّا يجب عليها أن تتحلّى به من خلق فالإسلام ليس مجرّد لباس وحركات بل هو إيمان يصدّقه العمل الصّالح والقول الصّالح، عبّرت ضيفتنا عن رغبتها في تعلّم العربيّة لتقرأ القرآن بمعانيه الأصليّة ووعدتنا بالتّسجيل في معهد اللّغات بلندن بعد عودتها، وسرّت كامل العائلة لما صدر عنها، وفي الأثناء همست لي والدتي ببراءة: " أي بنيّ ليتك تتزوّجها" رفعت كتفيّ ولم أجب فلا هي فهمت ولا أنا فهمت، ومن الغد أصبحت كاتي ترتدي حجابا وتؤدّي الصّلوات مع شقيقتي الّتي ساعدتها طويلا، وصارت تتحاشى الاختلاء بي ولو للحوار وقد علمت من شقيقتي أنها هي من لقّنتها كون اسلام يحرّم الخلوة بين الرّجل والمرأة، وأنّه عليها أن لا تسافر مستقبلا دون أن تكون مرفوقة بأحد محارمها، فتملّكني شعوران متناقضان أوّلهما الفرح باعتناقها دين الإسلام وثانيهما ألم لتحطّم إحساس بنيته في عالم افتراضيّ، وبين هذا وذاك حيرة لمنعها حبّي إيّاها وهو سؤال ظلّ عالقا ، ولم أعرف إجابته إلاّ يوم مغادرتها حيث رافقتها إلى المطار صحبة كلّ أفراد العائلة، بما في ذلك والدي، وقد فاجأتني أمام الجميع: " لقد عبّرت لي عن حبّك في أيّامي الأولى ، ورجوتك أن لا تحبّني لأنّ حبّي وحبّك لن يثمر ، فأنا حاملة لفيروس الأيدز، ويمكن أن أعديك" تملّكني خجل رهيب وتصبّب العرق من كامل جسمي وجفّ الرّيق في حلقي،فقد جحظت عيون بقيّة أفراد الأسرة، من فهم منهم قولها ومن لم يفهم، لقد كانت كلمة الإيدز مستهلكة إعلاميّا، ولكنّي تفهّمت الآن الأمر، فهي إنسانة وأنا إنسان .
انتهت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق