الخميس، 16 يوليو 2009



كان برد الشّتاء يعذّب جلد كلّ من يجرؤ على الخروج من بيته، فالسّماء تلبّدت بسحب دكناء دون أن تمطر، كنت ترى النّاس يهرعون إلى بيوتهم خشية أمر قد يحدث فجأة، فسماء غزّة صارت غير آمنة، وجحافل جراد العدوّ قد يلقي فضلاته الماكرة في كلّ حين دون رأفة بشيخ أو رضيع أو امرأة أو طالب علم خرج ليكرع من مناهل المعرفة، في هذا الجوّ الرّهيب، وفي هذه المتداخلات، آويت إلى بيتي، فإذا زوجتي قد أعدّت لي حساء دافئا، لا يقلّ دفءا عن مبسمها اللّطيف عند اللّقاء، تحلّقت وأبنائي السّبعة والوالدة الّتي نخر المرض جسدها الهزيل مع فقدان الأدوية والخدمات الصّحّيّة، فما أكثر الأعداء في هذا الزّمان! ... أخذت زوجتي توزّع علينا المأكول الدّافئ، كلّ ونصيبه، كانت عيون الأطفال تلمع بريقا وأملا يبدّد وحشة هذه الحياة، وتوحي بأنّ الغد سيكون أفضل مهما قست الظّروف ... فجأة رنّ الهاتف، تركت الجماعة وقصدت غرفة الجلوس، رفعت السّمّاعة، فإذا صوت عبريّ مقيت يتناهى إلى مسمعي دون تحيّة ولا أدب، تكلّم بلغة آل صهيون في البداية، ثمّ بعربيّة سيّئة النّطق والتّركيب، فهمت أنّهم يطلبون إليّ إخلاء المنزل، لأنّهم سيقصفونه، ابتسمت ابتسامة ساخرة، فليست هذه أوّل مرّة يطلب منّي هذا الأمر، علّقت السّمّاعة غير عابئ بتهديدهم، عدت أدراجي إلى العائلة فإذا الجميع في وجوم وعلى الوجوه أسئلة لا تجرؤ على مغادرة الحلق، همست: " كعادتهم المقيتة، يطلبون إلينا إخلاء البيت لأنّهم سيرمونه بالقنابل، أكيد لن نفعل، فمن يغادر بيته يغادر وطنه تبعا لذلك، فيستباح الكلّ" تجهّمت الوجوه وساد قلق وصمت، أنقذت الموقف قائلا: " لا عليكم فهذه لعبة آل صهيون، وهذا مكرهم، لا تخافوا، فالله معنا" وجلست إلى المائدة، التفتت زوجتي حولها ثمّ همست:" أرى أنّك قد نسيت شراء الخبز" ضربت بكفّي على جبيني، ثمّ تلحّفت بما يقيني البرد، واعدا بإحضار الخبز حالاّ، وخرجت، فإذا خيوط الظّلمة تبدّد النّور، وتحاول الاستبداد بالشّارع المظلم، فقد فرضوا علينا العيش في ظلام ومنعونا النّفط، فاضطرّت البلديّة إلى الاقتصاد في الكهرباء، كانت بعض الأنوار الشّحيحة تنبعث من دكاكين الحيّ، قصدتها فلم أجد خبزا، اضطررت إلى الانتقال إلى حيّ مجاور، فآخر، فآخر، وأخيرا حصلت على حاجة أسرتي منه، قفلت راجعا الهوينى، كنت طوال الطّريق أتساءل عن المصير الّذي ينتظر أهل غزّة، ففي كلّ يوم تحلّ المصيبة بعائلة وعائلات والعالم يتفرّج وكاميراهات الصّحفيّين تسجّل الأحداث لتنفرد به هذه القناة أو تلك في نشرات أخبارها، فتحصي عدد الشّهداء والجرحى والمشرّدين، كنت طوال الطّريق أستجمع ذكريات أفراد قتلوا ولا ذنب لهم سوى التّشبّث بديارهم وأراضيهم وحقّهم في العيش الحرّ الكريم في وطن يحمل هوّيّتهم ويصون كراماتهم، وما أكثرهم ... وفي زحمة هذه الأفكار والذّكريات والتّساؤلات، تناهى إلى مسمعي صوت أزيز محرّكات، بدا الصّوت ضعيفا ثمّ أخذ في الاشتداد، تلفتُّ حولي، لم أر شيئا، استطلعت السّماء، فإذا طيور معدنيّة تأخذ بالاقتراب، تجاوزتني، وما هي إلاّ لحظات حتّى تعالى صوت الانفجارات، انقبضت نفسي وهمست في داخلي:" لعلّهم نفّذوا تهديدهم، أبناء الأوغاد" ، أسرعت الخطى، وكأنّي ظامئ في الصّحراء يبحث عن نبع ماء أو عن واحة ظليلة تقيه لظى القيلولة ...
ما كدت أصل الحيّ حتّى رأيت القوم يهرعون صوب بيتي، ومنبّهات سيّارة الصّليب الأحمر تقصد المكان، اقتربت فإذا البيت تحوّل كومةً من ركام اختلط فيها كلّ شيء بكلّ شيء وتحوّل الحيّ إلى جماد، وسارع شبّان إلى رفع الأنقاض علّهم يعثرون عمّن يتنفّس بينها، رأيت بعد ذلك أشلاء أجسام أطفالي وزوجتي ووالدتي ترفع على المحفّات، إنّها أرقام جديد تزداد إلى عدّاد الضّحايا، أحسست بأوجاع في كلّ جزء من جسدي وروحي، وددت لو أنّ لي طاقة جبّارة لأسحق القتلة، لكن، لا يجرؤون على النّزول إلى الأرض، بل يمارسون عدوانهم من مسافات عالية، انهرت وكدت أسقط، فسارع إليّ جمع من الجيران يشدّون إزري ويصبّرونني، لقد كانت كلماتهم بلسما لجرح قديم جديد، فقد عشت مؤمنا بالله وبقضائه خيره وشرّه، وفي هذه الظّروف امتدّت لي يد الجار أبي أحمد، لملم ما بي من ألم بكلمات تعلن عن التّحدّي والصّمود، ثمّ اصطحبني إلى بيته، فأدخلني، وأحضرت لي زوجته إناء به ماء دافئ لأتوضّأ وأصلّي المغرب قبل أن يدخل وقت صلاة العشاء، صلّيت فخفّ ما بي من حزن، ثمّ وجدت الجار يدعوني إلى الرّاحة في غرفة الضّيوف، فالغد به مشاغل كثيرة ووكدها دفن شهداء العائلة .دخلت الغرفة وبرأسي فكرة: دوني كرامتي وعرضي، فالحرّيّة تحتاج ثباتا وباء وتضحيات، فلا شيء يهدى ، وعلينا أن لا نترك مصيرنا لعبة بأيدي القتلة، وليكن ما يكون.
انتهت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق