الأربعاء، 22 يوليو 2009

سقوط الأقنعة


قرية العامرة، هذه المتمنّعة أبدا، الشّامخة أبدا فوق تلّة تطلّ على البحر في استحياء، فيها ولدت وفيها ترعرعت وزاولت دراستي الابتدائيّة، كم هي غاصّة ذاكرتي بصور طفولة عذبة بين البراري والمروج وفي الأزقّة الضّيّة والشّوارع الملتوية، غادرتها لمزاولة تعليميّ الثّانويّ في المدينة المجاورة، ثمّ إلى الكلّيّة لأتخرّج أستاذ علوم فيزيائيّة، لست أدري أكان من حسن حظّي أو من نكادته أن صادف تخرّجي إقامة مدرسة إعداديّة بالعامرة، فقد تمّ تعييني مدرّسا بها، استبشر الأهل والأقارب لهذا التّعيين بقدر استبشارهم لفتح المدرسة، فرحت الوالدة لهذا الخبر، راحت تنشر الخبر بين الجيران والأقارب في زهو وفخر، كيف لا وهي انتظرت فرحة تخرّجي باعتبارها منقذا للعائلة من عيش صعب، فأهل قريتي كانوا ينظرون إلى الموظّفين على أنّهم علية القوم وأثرياؤه، شخصيّا تصوّرت ذلك، هكذا هي أوهام الطّفولة وأحلامها، ولكنّ الواقع مختلف، اتّصل بي ابن عمّ لي كان قد غادر المعهد دون مؤهّل وأخبرني أنّ أساتذة الرّياضيّات والفيزياء لهم مداخيل إضافيّة من خلال تقديم دروس خصوصيّة لأبناء الأسر المترفّهة، أجبته بكلمتين: " أين هي هذه الأسر المترفّهة ؟" فصمت، وفي الحقيقة كنت أرفض المتاجرة بالعلم، وأمقت كلّ مدرّس يشحّ بالمعلومة في فصله ثمّ يقدّمها بالمال في بيته، بين هذا الاستبشار والتّهليل باشرت عملي لسنوات خمس، حاولت فيها مقاومة الفكر الخرافيّ وغرس فكر علميّ قائم على تفسير الظّواهر والاستفادة منها، كنت كمن ينحت في صخر صلد، تغيّرت نظرة الأهالي إليّ، بعضهم اتّهني بإفساد العقول، البعض الآخر بالزّندقة، ... كيف لا وأنا أسند لكلّ طالب ما يستحقّ في الامتحانات، دون مجاملة أو دون مراعاة لأواصر القرابة، هذه الصّرامة جعلت العيون تحدجني بعين الرّيبة كلّما مررت بشوارع المدينة الضّيّقة، بل أكثر من مرّة سرت وسط وابل من الهمز واللّمز، ولكن ما يشفع لي أنّي كنت مترفّعا عن سوء الخلق وعن المسّ بأعراض النّاس وخبزهم، وهو ما جعلني أحظى ببقيّة تقدير وتبجيل، بعد هذه السّنوات الخمس أحسستني كخرطوم ماء يمرّر الماء دون أن يستفيد منه، فما ألقاه من راتب لا يكاد يغطّي مصاريفي ومصاريف العائلة الّتي أصبحت كلّ طلبات كبارها وصغارها من مشمولاتي، أحسست بضرب من الملل واللاّجدوى، فكّرت في تغيير وجهة حياتي، تهت دون أن يشعر بي أحد، بحثت عن سبيل للخلاص، ووجدته، كان ذلك ذات أمسية عندما كنت عائدا من المدينة، حيث صادفت أسرة أروبيّة تبحث عن مكان للسّهر، حاولت أن أستجمع بعض ذكريات فوصفت لهم مكانا لا أعرف غيره، شكرني الأب ومدّ لي ورقة نقديّة، أحسست بالإهانة فرددتها إليه مبتسما، تناول كنّشا وقلما من حافظة أوراقه ورجاني أن أكتب له عنواني ففعلت، دسّ الكنّش ثمّ شكر لي صنيعي وأخبرني أنّه أوّل مرّة يصادف في المدينة من يسدي خدمة بالمجان، فابتسمت ومضيت. ومرّت الأيّام ووصلتني رسالة من هذا الأجنبيّ يعرّفني فيها بأسرته وبمدينته وببلده ويرجوني أن أعرّفه بأسرتي ومدينتي ووطني، ورغم إيماني بأنّهم يعرفون عنّا أكثر ممّا نعرف عن أنفسنا فقد فعلت، وتواترت المراسلات بيننا حتّى دعاني يوما إلى وطنه لمواصلة دراساتي العليا، وفعلا وجدت الحكاية صدى في نفسي، تكفّل هو بربط الصّلة مع المؤسّسة وتكفّلت بإعداد الوثائق الضّروريّة، وكانت الأمورة ميسّرة فوجدت نفسي أدرس الفيزياء من منابعها، تخصّصت في فيزياء الفلك، فانكشفت لي بعض الأمور الغامضة حول الإنسان ومكانته في الكون، وأثر عالم ما فوق القمر بعالم ما تحت القمر، عدّة أمور كنت أعتقد أنّها خرافة ولكنّها في منطق المعرفة تلبّست بنزعة علميّة أو علميّة روحانيّة، وجدت فيها بعض متعة فتوغّلت فيها، فسبحان الّذي خلق هذا الكون وجعل له نواميس كلّما انفتحت لنا ازددنا ذهولا وتأكّدا من حكمة الخالق. أنهيت دراستي، وفي الأثناء استطعت جمع بعض مال من العمل في أوقات الفراغ، عدت إلى الوطن، ولكن بعقل جديد، لعلّه الخرافة أو جامع الخرافة إلى العلم، أمور متداخلة.

لم أعد إلى قريتي، بل اكتريت بيتا في المدينة، خصّصت جزءا منه للسّكن وجزءا كعيادة أو محلّ عرافة، وجدت النّاس ينهالون عليّ وكلّ يحمل همّا علاجه من غير اختصاصي، أحببت الغوص في هذا العالم العنيّ بالكوامن والأسرار، فمع كلّ زائر قصّة غريبة، كان المثقّفون يعودونني قبل الجهلة، فهذا له مشكلة مع حبّ قديم والأخرى استعصى عليها الإنجاب والآخر بارت تجارته وتلك لها حبيب هجرها ...

وفجأة ذكرت قريتي وحال أهلها، إنّهم لا يختلفون كثيرا عن هؤلاء، وقبل عيد الفطر بأيّام قرّرت مغامرة، فأهل القرية يزورون موتاهم بالمقابر في العشر الأواخر للتّرحّم ولعلّ البعض منهم لاستحضار ذكريات أب أو أخ أو أمّ أو حبيب ثوى، حاولت التّنكّر لكي لا يعرفني أحد، كنت مع خيوط الفجر الأولى بين القبور، وجدت امرأة ثكلى، إنّها تبكي ولدا قضى في عزّ شبابه، أخبرتها أنّه بإمكاني إعادته إليها في الحياة، استغربتْ في البداية وعندما لا حظت عليّ علامات الجدّ استدركت قائلة: " لا بنيّ اتركه ينام في قبره في سلام فقد كان ولدا قاسيا لا يحبّ العمل، يرهقني بكثرة طلباته ومصاريفه، حالي بعده أفضل، أرجوك دعه في قبره ..." واستغرقت في البكاء، ضحكت في داخلي ومضيت، وفي طريقي وجدت رجلا بين الكهولة والشّباب، يجلس واجما حذو قبر، سلّمت عليه فرفع رأسه، سألت عن فقده فأخبرني أنّها زوجته وحدّثني وعيناه مغرورقتان بالدّمع عن حبّهما وعن أيّامهما ولياليهما، وعن عشّ زوجيّتهما وعن ابنين خلّفتهما له، أخبرته أنّي أملك قدرات ربّانيّة خارقة وأنّه بإمكاني أن أعيد زوجته من قبرها إلى الحياة، حدجني بنظرة شاكّة فتماسكت، انبسطت أسارير الرّجل فأخذتني الرّيبة، ولكنّه أنقذني قائلا: "أرجوك لا تفعل، دعها ترقد في قبرها بسلام، لن يفيدني رجوعها..." استفسرته في الأمر فأخبرني أنّه ربط علاقة مع فتاة ثريّة ستمكّنه من العيش في ظروف أفضل مع طفليه، حاولت إقناعه ولكنّه أصرّ فابتسمت في داخلي وواصلت طريقي، وجدت في طريقي جماعة متحلّقين حول قبر، عرفت منهم أنّه لأب فارقهم منذ أيّام مخلّفا لهم اللّوعة والحسرة، أخبرتهم أنّي أملك هبة ربّانيّة تمكّنني من إحياء الميّت وإعادته إلى الحياة وأنّي سأفعل مع والدهم إن وافقوا، وانحبست الأنفاس، وتبادلوا نظرات فيها أكثر من دلالة، قطعت الصّمت: " أأفعل ؟" قال كبيرهم: "الوالد، رحمه الله طاعن في السّنّ ويشكو أمراض مزمنة كثيرة ولا فائدة من عودته، اتركه ينام في سلام..." تماكرتُ: "يمكنني أن أعيده دون أمراض" ساد الصّمت لحظات ثمّ نطقت إحدى بناته: " لا أرجوك لا تفعل، فأبي كان بخيلا ولطالما قتّر علينا النّفقة، اتركه أرجوك، دعه في رحمة الله" استحسن البقيّة كلامها فابتسمت في داخلي ومضيت، وفي مكان بعيد ينزوي قبر وتنحني عليه سيّدة شابّة في حنوّ، تردّدت قبل الاقتراب منها لأمر لم أدرك له معنى، ولكن تردّدي لم يطل، فقد دنوت منها في حذر كي لا أزعج قدّاسها، همست بالتّحيّة فردّت دون أن ترفع رأسها، تبيّنت من نبرتها أنّ العبرات تخنقها، عرفت فيما بعد أنّ قبر زوجها الشّابّ الّذي رحل وتركها وحيدة إثر حادث سير، أخبرتها أنّه يمكنني أن أعيده إلى الحياة بقرة ربّانيّة، فاستنكرت وأخبرتني أنّ الله وحده يبعث الأموات من الأجداث، أصررتُ على أنّ اللهّ مكّنني كما مكّن عيسى عليه السّلام، من القدرة على إحياء الموتى، حاولتْ إقناعي بأنّه مات منذ شهور في حادث أليم تحطّمت فيه عظامه، أخبرتها أنّه يمكنني إرجاعه سليما معافى، نظرت إليّ نظرة ثاقبة لعلّها أدركت منها أنّي جادّ فيما أقول فألقت لي، كمن يبوح بسرّ دفين بين الهمس والجهر: " انظر، بعد أيّام سأقبض ديّته، ولطالما عشت معه في فقر، نحن لا نملك حتّى المسكن، أيرضيك أن نعود إلى قبر الحياة، اتركه ينعم بقبره، ودعني أحسّن ظروف حياتي، فالحيّ أبقي من الميْت" ضحكت نفس الضّحكة في داخلي، مضيت ، مررت في الأثناء بحالات مشابهة ومختلفة، ولكلّ أسبابه في الحزن على الفقيد وأسباب لإبقائه في قبره، كدت أمرّ بوالدتي الّتي كانت تجلس إلى قبر جدّي، ولكنّي خشيت أن تعرفني، فكما قال القدماء قلب الأمّ دليلها، فانصرفت عائدا إلى المدينة على أن أعود يوم العيد للزّيارة والمعايدة ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق